فصل: الأية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 8‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة يونس

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الأية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 2‏)‏

‏{‏ الر تلك آيات الكتاب الحكيم ‏.‏ 7 أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ‏}‏

أما الحروف المقطعة فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة‏.‏

وقال ابن عباس ‏{‏الر‏}‏ أي أنا اللّه أرى، وكذلك قال الضحاك وغيره، ‏{‏تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏ أي هذه آيات القرآن المحكم المبين، وقال الحسن‏:‏ التوراة والزبور، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏ قال‏:‏ الكتب التي كانت قبل القرآن، وهذا القول لا أعرف وجهه ومعناه‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجبا‏}‏ يقول تعالى منكراً على من تعجب من الكفار، ومن إرسال المرسلين من البشر، كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم‏:‏ ‏{‏أبشر يهدوننا‏}‏‏؟‏ وقال هود وصالح لقومهما‏:‏ ‏{‏أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم‏}‏‏؟‏ وقال تعالى مخبراً عن كفار قريش‏:‏ ‏{‏أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب‏}‏‏؟‏‏!‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما بعث اللّه تعالى محمداً صلى اللّه عليه وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم، فقالوا‏:‏ اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد، قال فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏أكان للناس عجبا‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏أن لهم قدم صدق عند ربهم‏}‏ اختلفوا فيه؛ فقال ابن عباس‏:‏ سبقت لهم السعادة في الذكر، وقال العوفي عنه‏:‏ ‏{‏أن لهم قدم صدق عند ربهم‏}‏ يقول‏:‏ أجراً حسناً بما قدموا وهو قول الضحاك والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال مجاهد‏:‏ الأعمال الصالحة، صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، قال‏:‏ ومحمد صلى اللّه عليه وسلم يشفع لهم؛ وقال قتادة سلف صدق عند ربهم؛ واختار ابن جرير قول مجاهد‏:‏ إنها الأعمال الصالحة التي قدموها، كما يقال‏:‏ له قدم في الإسلام، كقول حسان‏:‏

لنا القدم العليا إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة اللّه تابع

وقول ذي الرمة‏:‏

لكم قدم لا ينكر الناس أنها * مع الحسب العاديِّ طَمَّتْ على البحر

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الكافرون إن هذا لساحر مبين‏}‏ أي مع أنا بعثنا إليهم رسولاً منهم رجلاً من جنسهم بشيراً ونذيراً، ‏{‏قال الكافرون إن هذا لساحر مبين‏}‏ أي ظاهر، وهم الكاذبون في ذلك‏.‏

 الأية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ‏}‏

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه، وأنه خالق السماوات والأرض في ستة أيام، قيل‏:‏ كهذه الأيام، وقيل‏:‏ كل يوم كألف سنة مما تعدون، كما سيأتي بيانه، ثم استوى على العرش، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها، وهو ياقوتة حمراء، وقوله‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ أي يدبر الخلائق ‏{‏لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏}‏ ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، في الجبال والبحار والعمران والقفار ‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها‏}‏ الآية، ‏{‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم اللّه ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون‏}‏ أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ أيها المشركون في أمركم تعبدون مع اللّه إلهاً غيره، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم‏؟‏ ليقولن اللّه‏}‏‏.‏

 الأية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ‏}‏

يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحداً حتى يعيده كما بدأه، ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده، ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏، ‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط‏}‏ أي بالعدل والجزاء الأوفى، ‏{‏والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏، أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم، ‏{‏هذا فليذقوه حميم وغساق‏}‏‏.‏

 الأية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ‏.‏ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ‏}‏

يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع القمر نوراً، هذا فن وهذا فن آخر؛ ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقدّر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيراً، ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر حسبانا‏}‏، ‏{‏وقدره‏}‏ أي القمر، ‏{‏منازل لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام، ‏{‏ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق‏}‏ أي لم يخلقه عبثاً بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نفصل الآيات‏}‏ أي نبين الحجج والأدلة، ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن في اختلاف الليل والنهار‏}‏ أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئاً كقوله‏:‏ ‏{‏يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وما خلق اللّه في السماوات والأرض‏}‏ أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى، كما قال‏:‏ ‏{‏وكأين من آية في السموات والأرض‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السموات والأرض‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ أي العقول، وقال ههنا ‏{‏لآيات لقوم يتقون‏}‏، أي عقاب اللّه وسخطه وعذابه‏.‏

 الأية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 8‏)‏

‏{‏ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ‏.‏ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء اللّه يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئاً، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها‏}‏ الآية، قال الحسن‏:‏ واللّه ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها، وهم غافلون عن آيات اللّه الكونية، فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها بأن مأواهم يوم معادهم النار جزاء ما كانوا يكسبون في ديناهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر باللّه ورسوله واليوم الآخر‏.‏

 الأية رقم ‏(‏9 ‏:‏ 10‏)‏

‏{‏ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ‏.‏ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ‏}‏

هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصالحات، بأنه سيهديهم بإيمانهم، أي بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم اللّه يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة، ويحتمل أن تكون للاستعانة، كما قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏ قال‏:‏ يكون لهم نوراً يمشون به، وقال ابن جريج‏:‏ في الآية يمثل له عمله في صورة حسنة إذا قام من قبره يبشره بكل خير، فيقول له‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا عملك، فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏ والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فليزم صاحبه حتى يقذفه في النار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين‏}‏ أي هذا حال أهل الجنة، قال ابن جريج‏:‏ أخبرت أنه إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا‏:‏ سبحانك اللهم، وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه، فيسلم عليهم فيردون عليه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وتحيتهم فيها سلام‏}‏، قال‏:‏ فإذا أكلوا حمدوا اللّه ربهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين‏}‏، وقال مقاتل‏:‏ إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم‏:‏ ‏{‏سبحانك اللهم‏}‏ قال‏:‏ فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى، قال‏:‏ فيأكل منهن كلهن، وهذه الآية فيها شبه من قوله‏:‏ ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا قيلا سلاما سلاما‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏سلام قولا من رب رحيم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين‏}‏ فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبداً، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنزيله، حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب‏}‏،

{‏الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض‏}‏ إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأولى والآخرة في جميع الأحوال، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس‏)‏، وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم اللّه عليهم، فتكرر وتعاد وتزداد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏

 الأية رقم ‏(‏11‏)‏

‏{‏ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ‏}‏

يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده، أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أولادهم بالشر، في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفاً ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأولادهم بالخير والبركة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولو يعجل اللّه للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم‏}‏ الآية‏:‏ أي لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك؛ كما جاء في الحديث الذي رواه جابر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من اللّه ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم‏)‏ ‏"‏أخرجه البزار وأبو داود عن جابر بن عبد اللّه‏"‏، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير‏}‏ الآية، وقال مجاهد في تفسير هذه الآية‏:‏ هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه‏:‏ اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يجعل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم‏.‏

 الأية رقم ‏(‏12‏)‏

‏{‏ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ‏}‏

يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر، كقوله‏:‏ ‏{‏وإذا مسه الضر فذو دعاء عريض‏}‏ أي كثير، وهما في معنى واحد، وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها، وأكثر الدعاء عند ذلك، فدعا اللّه في كشفها ورفعها عنه، في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله، فإذا فرّج اللّه شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب، كأن ما كان به من ذلك شيء، ‏{‏مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه‏}‏، ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال‏:‏ ‏{‏كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏، فأما من رزقه اللّه الهداية والسداد، والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏عجباً للمؤمن لا يقضي اللّه له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن‏)‏

 الأية رقم ‏(‏13 ‏:‏ 14‏)‏

‏{‏ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ‏.‏ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ‏}‏ أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات، استخلف اللّه هؤلاء القوم من بعدهم، وأرسل إليهم رسولاً لينظر طاعتهم له، واتباعهم رسوله، وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء‏)‏

 الأية رقم ‏(‏15 ‏:‏ 16‏)‏

‏{‏ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ‏.‏ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ‏}‏

يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه،

أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم كتاب اللّه وحججه الواضحة قالوا له‏:‏ ائت بقرآن غير هذا، أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر، قال اللّه تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي‏}‏ أي ليس هذا إليّ إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلّغ عن اللّه، ‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏}‏؛ ثم قال محتجاً عليهم في صحة ما جاءهم به؛ ‏{‏قل لو شاء اللّه ما تلوته عليكم ولا أدراكم به‏}‏ أي هذا إنما جئتكم به عن إذن اللّه لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوله من عندي، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني اللّه عزَّ وجلَّ، لا تنتقدون عليَّ شيئاً تغمصوني به، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون‏}‏ أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل‏؟‏ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قال له‏:‏ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ قال أبو سفيان‏:‏ فقلت‏:‏ لا، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق والفضل ما شهدت به الأعداء فقال له هرقل‏:‏ فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ليكذب على اللّه‏.‏ وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة‏:‏ بعث اللّه فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة‏.‏

 الأية رقم ‏(‏17‏)‏

‏{‏ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراماً ‏{‏ممن افترى على اللّه كذبا‏}‏، وتقوّل على اللّه، وزعم أن اللّه أرسله ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء‏؟‏ فإن من قال هذه المقالة صادقاً أو كاذباً فلا بدّ أن اللّه ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى اللّه عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين الضحى وبين حندس الظلماء، قال عبد اللّه بن سلام‏:‏ لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة انجفل الناس يعني قومه اليهود‏.‏ وأما العرب وهم الأنصار فكانوا في أشد الغبطة والسرور فكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، قال‏:‏ فكان أول ما سمعته يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام‏)‏، ولما وفد ضمام بن ثعلبة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما قاله‏:‏ من رفع هذه السماء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اللّه‏)‏، قال‏:‏ ومن نصب هذه الجبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اللّه‏)‏، قال‏:‏ ومن سطح هذه الأرض‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اللّه‏)‏، قال‏:‏ فبالذي رفع هذه السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض آللّه أرسلك إلى الناس كلهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اللهم نعم‏)‏، ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له‏:‏ صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقد أيقن بصدقه صلوات اللّه وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه، قال حسان بن ثابت‏:‏

لو لم تكن فيه آيات مبينة * كانت بديهته تأتيك بالخبر

وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة، وكان صديقاً له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة‏:‏ ويحك يا عمرو، ماذا أنزل على صاحبكم، يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في هذه المدة‏؟‏ فقال‏:‏ لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة، فقال‏:‏ وما هي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏والعصر إن الإنسان لفي خسر‏}‏ إلى آخر السورة، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال‏:‏ وأنا قد أنزل عليَّ مثله، فقال‏:‏ وما هو‏؟‏ فقال‏:‏ يا وبر، يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر ، كيف ترى يا عمرو، فقال له عمرو‏:‏ واللّه إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب‏.‏ فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى اللّه عليه وسلم وصدقه، وحال مسيلمة لعنه اللّه وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى‏؟‏ ولهذ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون‏}‏، وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، وقامت عليه الحجج، لا أحد أظلم منه كما في الحديث‏:‏ ‏(‏أعتى الناس على اللّه رجل قتل نبياً أو قتله نبي‏)‏

 الأية رقم ‏(‏18 ‏:‏ 19‏)‏

‏{‏ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ‏.‏ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ‏}‏

ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع اللّه غيره ظانين أن تلك الآلهة أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند اللّه، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئاً، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبداً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتنبئون اللّه بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ معناه أتخبرون اللّه بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض‏؟‏ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏، ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام، قال ابن عباس‏:‏ كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث اللّه الرسل بآياته وبيّناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة‏:‏ ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ الآية، أي لولا ما تقدم من اللّه تعالى أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، وأنه أجلّ الخلق إلى أجل معدود، لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه، فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين‏.‏

 الأية رقم ‏(‏20‏)‏

‏{‏ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ‏}‏

أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون‏:‏ لولا أنزل على محمد آية من ربه، يعنون‏:‏ كما أعطى اللّه ثمود الناقة، أو أن يحول لهم الصفا ذهباً، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهاراً، أو نحو ذلك، مما اللّه عليه قادر، ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون‏}‏ الآية، يقول تعالى‏:‏ إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة، ولهذا لما خير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا، وبين إنظارهم، اختار إنظارهم، كما حلم عنهم غير مرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا قال تعالى إرشاداً لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الجواب عما سألوا‏:‏ ‏{‏فقل إنما الغيب للّه‏}‏ أي الأمر كله للّه وهو يعلم العواقب في الأمور، ‏{‏فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏ أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم اللّه فيَّ وفيكم، ولو علم أنهم سألوا ذلك استرشاداً وتثبتاً لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون ذلك عناداً وتعنتاً فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد لما فيه من المكابرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم بابا من السماء‏}‏ الآية،

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كسفا من السماء ساقطا‏}‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ فمثل هؤلاء لا فائدة من جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏‏.‏

 الأية رقم ‏(‏21 ‏:‏ 23‏)

‏{‏ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ‏.‏ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ‏.‏ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ‏}‏

يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط، ونحو ذلك ‏{‏إذا لهم مكر في آياتنا‏}‏، قال مجاهد استهزاء وتكذيب، ‏{‏قل اللّه أسرع مكرا‏}‏ أي أشد استدراجاً وإمهالاً حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على النقير والقطمير، ثم أخبر تعالى أنه‏:‏ ‏{‏هو الذي يسيركم في البر والبحر‏}‏ أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته، ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها‏}‏ أي بسرعة سيرهم رافلين، فبينما هم كذلك إذ ‏{‏جاءتها‏}‏ أي تلك السفن ‏{‏ريح عاصف‏}‏ أي شديدة، ‏{‏وجاءهم الموج من كل مكان‏}‏ أي اغتلم البحر عليهم، ‏{‏وظنوا أنهم أحيط بهم‏}‏ أي هلكوا، ‏{‏دعوا اللّه مخلصين له الدين‏}‏ أي لا يدعون معه صنماً ولا وثناً يفردونه بالدعاء والابتهال، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه‏}‏، ‏{‏لئن أنجيتنا من هذه‏}‏ أي هذه الحال ‏{‏لنكونن من الشاكرين‏}‏ أي لا نشرك بك أحداً

ولنفردنك بالعبادة كما أفردناك بالدعاء ههنا، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أنجاهم‏}‏ أي من تلك الورطة، ‏{‏إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق‏}‏ أي كأن لم يكن من ذلك شيء، ‏{‏كأن لم يدعنا إلى ضر مسه‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏ أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم، ولا تضرون به أحداً غيركم، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏ما من ذنب أجدر أن يعجل اللّه عقوبته في الدنيا مع ما يدخر اللّه لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏متاع الحياة الدنيا‏}‏ أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة، ‏{‏ثم إلينا مرجعكم‏}‏ أي مصيركم ومآلكم، ‏{‏فننبئكم‏}‏ أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏.‏

 الأية رقم ‏(‏24 ‏:‏ 25‏)‏

‏{‏ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ‏.‏ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‏}‏

ضرب تبارك وتعالى مثلاً لزهرة الحياة الدنيا وزينتها، وسرعة انقضائها وزوالها،

بالنبات الذي أخرجه اللّه من الأرض، مما يأكل الناس من زروع وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام، ‏{‏حتى إذا أخذت الأرض زخرفها‏}‏ أي زينتها الفانية، ‏{‏وازينت‏}‏ أي حسنت بما خرج في رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ‏{‏وظن أهلها‏}‏ الذين زرعوها وغرسوها ‏{‏أنهم قادرون عليها‏}‏ أي على جذاذها وحصادها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا‏}‏ أي يابساً بعد الخضرة والنضارة، ‏{‏كأن لم تغن بالأمس‏}‏ أي كأنها ما كانت حيناً قبل ذلك، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏كأن لم تغن‏}‏ كأن لم تنعم، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، قال تعالى‏:‏ إخباراً عن المهلكين‏:‏ ‏{‏فأصبحوا في دارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نفصل الآيات‏}‏ أي نبين الحجج والأدلة ‏{‏لقوم يتفكرون‏}‏ فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها سريعاً، مع اغترارهم بها وتفلتها عنهم، وقد ضرب اللّه تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من كتابه العزيز فقال‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان اللّه على كل شيء مقتدرا‏}‏، وكذا في سورة الزمر و الحديد‏"‏يضرب اللّه بذلك مثل الحياة الدنيا، وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه يدعو إلى دار السلام‏}‏ لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها، رغَّب في الجنة ودعا إليها وسمّاها دار السلام، أي من الآفات والنقائص والنكبات فقال‏:‏ ‏{‏واللّه يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏روي عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه، أنه قال‏:‏ خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً فقال‏:‏ ‏(‏إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه‏:‏ اضرب له مثلاً، فقال‏:‏ إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه؛ فاللّه الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول؛ فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، من دخل الجنة أكل منها‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن جابر بن عبد اللّه‏"‏‏.‏

 الأية رقم ‏(‏26‏)‏

‏{‏ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ‏}‏

يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، ‏{‏الحسنى‏}‏ في الدار الآخرة ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وزيادة‏}‏ هي تضعيف ثواب الأعمال ويشمل ما يعطيهم اللّه في الجنة من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم،

فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته، وقد روى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم الجمهور من السلف والخلف، روى الإمام أحمد عن صهيب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏، وقال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة إن لكم عند اللّه موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون‏:‏ وما هو ألم يثقل موازيننا‏؟‏ ألم يبيض وجوهنا‏؟‏ ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار‏؟‏ - قال‏:‏ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فواللّه ما أعطاهم اللّه شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ورواه مسلم وجماعة من الأئمة‏"‏‏.‏

وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه يبعث يوم القيامة منادياً ينادي‏:‏ يا أهل الجنة - بصوت يسمع أولهم وآخرهم - إن اللّه وعدكم الحسنى

وزيادة، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزَّ وجلَّ‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏الحسنى‏:‏ الجنة، والزيادة النظر إلى وجه اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يرهق وجوههم قتر‏}‏ أي قتام وسواد في عرصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة، ‏{‏ولا ذلة‏}‏ أي هوان وصغار، بل هم كما قال تعالى في حقهم‏:‏ ‏{‏فوقاهم اللّه شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا‏}‏ أي نضرة في وجوههم وسروراً في قلوبهم، جعلنا اللّه منهم بفضله ورحمته آمين‏.‏

 الأية رقم ‏(‏27‏)‏

‏{‏ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏}‏

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك، ‏{‏وترهقهم‏}‏ أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها، كما قال‏:‏ ‏{‏وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مهطعين مقنعي رؤوسهم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ما لهم من اللّه من عاصم‏}‏ أي مانع ولا واق يقيهم العذاب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان يؤمئذ أين المفر * كلا لا وزر‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كأنما أغشيت وجوههم‏}‏ الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة‏}‏ الآية‏.‏

 الأية رقم ‏(‏28 ‏:‏ 30‏)‏

‏{‏ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ‏.‏ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ‏.‏ هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم‏}‏ أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر، كقوله‏:‏ ‏{‏وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا‏}‏، ‏{‏ثم نقول للذين أشركوا‏}‏ الآية، أي الزموا أنتم وهم مكاناً معيناً، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون‏}‏، وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏يومئذ يصدعون‏}‏ أي يصيرون صدعين؛ وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، ‏{‏مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم‏}‏ أي أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم، كقوله‏:‏ ‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء‏}‏ الآية، ‏{‏فكفى باللّه شهيدا بيننا وبينكم‏}‏ الآية، أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم واللّه شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك، وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع اللّه غيره وقد تركوا عبادة الحي القيوم القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، وقد أرسل رسله آمراً بعبادته وحده لا شريك له ناهياً عن عبادة ما سواه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون‏؟‏‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت‏}‏ أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وردوا إلى اللّه مولاهم الحق‏}‏ أي ورجعت الأمور كلها إلى اللّه الحكم العدل، ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ‏{‏وضل عنهم‏}‏ أي ذهب عن المشركين، ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ أي ما كانوا يعبدون من دون اللّه افتراء عليه‏.‏

 الأية رقم ‏(‏31 ‏:‏ 33‏)‏

‏{‏ قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ‏.‏ فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ‏.‏ كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ‏}‏

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على واحدنية إلاهيته، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من يرزقكم من السماء والأرض‏}‏ أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر، فيشق الأرض شقاً يقدرته ومشيئته، فيخرج منها ‏{‏حبا وعنبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا‏}‏ أإله مع اللّه‏؟‏ فسيقولون‏:‏ اللّه ‏{‏أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه‏}‏‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أمن يملك السمع والأبصار‏}‏ أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏}‏ أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يدبر الأمر‏}‏ أي من بيده ملكوت كل شيء، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فالملك كله العلوي والسفلي فقيرون إليه خاضعون لديه، ‏{‏فسيقولون الله‏}‏ أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به، ‏{‏فقل أفلا تتقون‏}‏‏؟‏ أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فذلكم اللّه ربكم الحق‏}‏ الآية، أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏}‏‏؟‏ أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد، لا شريك له، ‏{‏فأنى تصرفون‏}‏ أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه‏؟‏ وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء، وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا‏}‏ أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم، وعبادتهم مع اللّه غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده، فلهذا حقت عليهم كلمة اللّه أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين‏}‏‏.‏

 الأية رقم ‏(‏34 ‏:‏ 36‏)

‏{‏ قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ‏.‏ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ‏.‏ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ‏}‏ وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا باللّه غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد، ‏{‏قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق ثم يعيده‏}‏ أي من بدأ خلق هذه السماوات والأرض، ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق، ويفرّق أجرام السماوات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقاً جديداً ‏{‏قل اللّه‏}‏ هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك به، ‏{‏فأنى تؤفكون‏}‏ أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل، ‏{‏قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق‏؟‏ قل اللّه يهدي للحق‏}‏ أي أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، وإنما يهدي الحيارى والضُلاّل، ويقلّب القلوب من الغيّ إلى الرشد اللّه رب العالمين، ‏{‏أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى‏}‏ أي أفيتبع العبد الذي يهدى إلى الحق ويبصر بعد العمى، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا أن يهدى لعماه وبكمه، كما قال تعالى إخباراً عن إبراهيم أنه قال‏:‏ ‏{‏يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم كيف تحكمون‏}‏ أي فما بالكم يذهب بعقولكم، كيف سويتم بين اللّه وبين خلقه، وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا‏؟‏ وهلا أفردتم الرب جلّ جلاله بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة‏؟‏ ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلاً ولا برهاناً، وإنما هو ظنٌ منهم أي توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئاً، ‏{‏إن اللّه عليم بما يفعلون‏}‏ تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء‏.‏

 

الأية رقم ‏(‏37 ‏:‏ 40‏)‏

‏{‏ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ‏.‏ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ‏.‏ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ‏.‏ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ‏}‏

هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند اللّه، الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه‏}‏ أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند اللّه ولا يشبه هذا كلام البشر، ولكن تصديق الذي بين يديه‏}‏ أي من الكتب المتقدمة ومهيمناً عليه، ومبيناً لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل، وقوله‏:‏ ‏{‏وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين‏}‏ أي وبيان الأحكام بياناً شافياً كافياً لا مرية فيه من اللّه رب العالمين، كما تقدم في الحديث ‏(‏فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم‏)‏ أي خبر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه اللّه ويرضاه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين‏}‏ أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند اللّه، وقلتم كذباً إن هذا من عند محمد، فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله، أي من جنس هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان، وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد، فليعارضوه بنظير ما جاء، ولسيتعينوا بمن شاءوا، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‏}‏، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين‏}‏، ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين‏}‏، وكذا في سورة البقرة، وهي مدنية تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبداً فقال‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار‏}‏ الآية‏.‏ وهذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى من هذا الباب، ولكن، جاءهم من اللّه ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام، وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأشدهم له انقياداً‏.‏

لهذا جاء في الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه اللّه إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله‏}‏ يقول‏:‏ بل كذب هؤلاء بالقرآنن ولم يفهموه ولا عرفوه ‏{‏ولما يأتهم تأويله‏}‏ أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلاً وسفهاً، ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم‏}‏ أي من الأمم السالفة، ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‏}‏ أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلماً وعلواً وكفراً وعناداً، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يؤمن به‏}‏ الآية، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ‏{‏ومنهم من لا يؤمن به‏}‏ بل يموت على ذلك ويبعث عليه، ‏{‏وربك أعلم بالمفسدين‏}‏ أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه‏.‏ ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس‏.‏

 

الأية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 44‏)‏

‏{‏ وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ‏.‏ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ‏.‏ ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ‏.‏ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ‏}‏

يقول تعالى لنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم

ومن عملهم ‏{‏فقل لي عملي ولكم عملكم‏}‏، كقوله تعالى عن إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين‏:‏ ‏{‏إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون اللّه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏ أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم النافع في القلوب والأبدان، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم، فإنك كما لا تقدر على إسماع الأصم، فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء اللّه، ‏{‏ومنهم من ينظر إليك‏}‏ أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك اللّه من الخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار، ‏{‏وإذا

رأوك إن يتخذونك إلا هزوا‏}‏ الآية، ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئاً، وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى، وفتح به أعيناً عمياء وآذاناً صماء وقلوباً غلفاً، وأضل به عن الإيمان آخرين؛ فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏}‏‏.‏

 

الأية رقم ‏(‏45‏)

‏{‏ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ‏}‏

يقول تعالى مذكراً للناس قيام الساعة، وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم‏}‏ الآية، كقوله‏:‏ ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة‏}‏، وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقوله‏:‏ ‏{‏قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين‏؟‏ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يتعارفون بينهم‏}‏

أي يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض، كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه، ‏{‏فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يسأل حميم حميما‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه وما كانوا مهتدين‏}‏ خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة‏.‏

 

الأية رقم ‏(‏46 ‏:‏ 47‏)‏

‏{‏ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ‏.‏ ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم، ‏{‏أو نتوفينك فإلينا مرجعهم‏}‏، أي مصيرهم ومنقلبهم، واللّه

يشهد على أفعالهم بعدك، وقوله‏:‏ ‏{‏ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني يوم القيامة ‏{‏قضي بينهم بالقسط‏}‏ الآية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشرقت الأرض بنور ربها‏}‏ الآية، فكل أمة تعرض على اللّه بحضرة رسولها، وكتاب أعمالها من خير وشر شاهد عليها وحفظتهم من الملائكة شهود أيضاً، وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة، يفصل بينهم ويقضى لهم، كما جاء في الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق‏)‏، فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات اللّه وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين‏.‏

 

الأية رقم ‏(‏48 ‏:‏ 52‏)‏

‏{‏ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ‏.‏ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ‏.‏ قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ‏.‏ أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ‏.‏ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذابن وسؤالهم عن وقته قبل التعيين، مما لا فائدة لهم فيه، كقوله‏:‏ ‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق‏}‏ أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عيناً، ولهذا أرشد تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم إلى جوابهم فقال‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا‏}‏ الآية، أي لا أقول إلا ما علمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به، إلا أن يطلعني اللّه عليه، فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها، ولكن ‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم ‏{‏فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏ولن يؤخر اللّه نفسا إذا جاء أجلها‏}‏ الآية، ثم أخبر أن عذاب اللّه سيأتيهم بغته، فقال‏:‏

‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا‏}‏‏؟‏ أي ليلاً أو نهاراً، ‏{‏ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون‏}‏ يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا‏:‏ ‏{‏ربنا أبصرنا وسمعنا‏}‏ الآية، ‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد‏}‏ أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتاً وتقريعاً كقوله‏:‏ ‏{‏اصلوها فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏